نُقص الأدوية: ترشيد الاستهلاك بين 'سوء الفهم' وحل الأزمة.. فأيّ قراءة؟
تعود أزمة نقص الأدوية إلى الواجهة من جديد، بعد فقدان عدد منها من السوق، الأمر الذي أثار اهتمام المواطنين، خلال الفترة الأخيرة، أزمة أقرت وزارة الصحة بوجودها وأعلنت عن إجراءات لاحتوائها.
أزمة شحّ الأدوية في تونس، ليست وليدة الساعة، بل هي ظاهرة تكرّرت لأكثر من مرة في العقد الأخير، والسبب واحد وهو المشاكل الهيكلية والاقتصادية، وفق اجماع كل المتدخلين في القطاع.
وزارة الصحة.. نقص ظرفي سنتجاوزه
مع بداية ظهور بوادر النقص، أشرف وزير الصحة، مصطفى الفرجاني، على جلسة عمل خُصّصت لوضع خطة وطنية شاملة تهدف إلى مواجهة النقص 'الظرفي' في الأدوية وضمان استمرارية التزويد بها في السوق التونسية.
وخلال هذه الجلسة، تمّ الاتفاق على جملة من الإجراءات العملية أهمها تركيز منصة إنذار مبكر داخل الصيدلية المركزية للتبليغ الفوري عن أي خطر نفاد الأدوية.
كما تقرّر إلزام مصنّعي الأدوية بالتصريح المنتظم بمخزونهم لتجنّب النفاد الفجئي، مع التنسيق المسبق مع المخابر عند تسجيل أي اضطراب في الإنتاج.
وفي السياق ذاته، تم الاتفاق على إطلاق حملة وطنية للتحسيس بأهمية اللجوء إلى الأدوية الجنيسة مع دعوة الأطباء والصيادلة إلى الاعتماد على البيانات الوطنية في وصف الأدوية وترشيد الوصفات الطبية، إضافة إلى توعية المواطنين بضرورة حسن استعمال هذه الأدوية، فكيف سيتم تجاوز هذه الأزمة ومن يتحمل مسؤوليتها؟

هل المسؤولية مشتركة..؟
يكمن أصل المشكل في أزمة نقص الأدوية، في الديون المتراكمة لدى الصندوق الوطني للتأمين على المرض (الكنام) لصالح الصيدلية المركزية والذي يعاني بدوره من ارتفاع مديونية المستشفيات العمومية، إضافة إلى تأخر صرف مستحقات الصيدليات الذي يتجاوز أحيانا الستة أشهر، ومشاكل التوريد والتصنيع أحيانا، وفق ما أعلنت عنه الصيدلية المركزية في أكثر من مناسبة.
وتبلغ ديون الصندوق الوطني للتأمين على المرض والمستشفيات العمومية تجاه الصيدلية المركزية أكثر من 1.1 مليار دينار (سنة 2024) الأمر الذي جعل من الوضعية المالية للصيدلية صعبة جدا، وبالتالي تواجه صعوبة في تسديد مستحقات مخابر الأدوية، وتخفض طلبياتها من المزودين الاجانب، ومنح الأولية للأدوية الحياتية .
وكان رئيس النقابة التونسية لأصحاب الصيدليات الخاصة في تونس، نوفل عميرة، قد أكّد في تصريح سابق لموزاييك، أنّ عديد المخابر العالمية المختصة في صناعة الأدوية لم تعد تقبل التعامل مع السوق التونسية.
من جانبها قالت مُلكة المدير الكاتبة العامة في نقابة الصيدليات الخاصّة، في تصريح سابق لموزاييك، إنّ نقص الأدوية في الصيدليات مشكل تراكم منذ 2016 وتفاقم في الثلاث السنوات الأخيرة، خاصة أن السوق العالمية تعيش بدورها مشكلا في التزويد.
وأوضحت أنّ الصيدلية المركزية تواجه صعوبات مالية فهي شركة رابحة على الورق لكنها لا تتحصل على مستحقاتها من المستشفيات والصندوق الوطني للتأمين على المرض ''الكنام'' الذي بدوره لم يتحصّل إلا على 40% من مستحقاته من صندوق الضمان الاجتماعي.
التهريب واقتناء الأدوية من الخارج خطر يهدد القطاع
وحذرت ملكة المدير من اللجوء لاقتناء الأدوية من الخارج بسبب فقدانها في السوق، موضحة أنّ الأمر خطير لأنه ساهم في ظهور شبكات استغلت الوضع وأصبحت تبيع الادوية على الانترنت دون التثبت من طريقة تخزينها أو تاريخ صلوحيتها وطريقة استعمالها، وما يفتح الباب أيضا أمام ظاهرة التهريب.
وفي هذا السياق، تمّ منذ بداية السنة الحالية (2025) حجز أكثر من 10 ألاف قطعة دواء موزعة بين موردة وتهم أدوية حيوانية وبين أدوية مهربة إلى خارج البلاد التونسية وتهم المسكنات وأدوية الأمراض المزمنة منها للقلب والسكر وضغط الدم .

الصناعة الدوائية التونسية
*تنتج الصناعة الدوائية التونسية والمستلزمات الطبية، نوعيْن من الأدوية:
الدواء الأصلي بترخيص من الشركة الأم العالمية عبر فرع لها في تونس أو عن طريق عقود، ويكون المنتوج دواء مصنّعا محليا بنفس مواصفات وجودة الدواء المصنّع في بلد المنشأ أمّا المؤسّسات الأجنبية المستثمرة في هذا القطاع فهي من أوروبا وأمريكا وآسيا.
أمّا النوع الثاني فهو الدواء الجنيس ويوجد نوع ثالث لا يزال في بداياته يهمّ الأدوية المجددة والمنتجة بفضل البيوتكنولوجيا (تعتمد على مادة فعالة حيوية بيولوجية وليست كيميائية)، وقد بدأت بعض الوحدات التونسية العمل على إنتاج هذه النوعية من الأدوية في تونس.
*الأدوية المصنّعة محليا تُغطي جميع الأمراض وحتّى المستعصية منها كالسرطان
تغطي صناعة الدواء المحلية نحو 63% من حاجيات السوق الداخلية، و23% من حاجيات المستشفيات، كما تساهم في توفير العملة الصعبة من خلال إيرادات التصدير. وقد بلغت قيمة الصادرات التونسية من المنتجات الصيدلانية 113.94 مليون دولار أميركي (سنة 2023)، من بينها 41 مليون دولار من الصادرات إلى السوق الفرنسية. وشكلت هذه الصادرات ما يعادل 0.568% من إجمالي صادرات تونس التي بلغت حوالي 20 مليار دولار في عام 2023.
عرف الاستهلاك الدوائي في تونس تطوّرا ملحوظا إذ بلغ بالنسبة إلى المستشفيات في السنوات الاخيرة، منها حوالي 136 مليون دينار أدوية محلية. وعموما يستهلك التونسي سنويا ما قيمته حوالي 2500 مليون دينار أدوية مستوردة ومحلية.
* ارتفاع كلفة شراء الأدوية
بلغت كلفة شراء الأدوية في الصيدلية المركزية خلال الفترة الممتدة من 2021 إلى 2024، الـ 300 مليون دينار، بعد أن كانت في حدود 30 مليون دينار فقط، وفق ما كشفه الرئيس المدير العام للصيدلية المركزية، شكري حمودة.
وكشف حمودة في حوار مع وكالة تونس افريقيا للأنباء، أن الارتفاع الكبير في كلفة الشراءات من الأدوية يفرض اتخاذ إجراءات تتيح إحكام التصرف في الكلفة، في الوقت الذي تستأثر فيه 16 نوعًا من الأدوية لوحدها بمبلغ 250 مليون دينار.
وبلغت قيمة الأدوية المستوردة 180 مليون دينار، مما دفع القائمين على مركزية الأدوية إلى التخطيط لخفض هذه الكلفة عبر اقتراح تعديل تسعيرة الأنواع المستوردة ذات المثيل المحلي، حسب ما ذكره المتحدث.

ترشيد الاستهلاك قدّ يمثّل حلا..
'أخبار زائفة' و'فيديوهات قديمة'، هكذا وصفت وزارة الصحة ما يتم تداوله مؤخرا في علاقة بقطاع الصحّة والدواء بعد تسجيل هذا النقص، موضّحة أنّ البلاغ الصادر عنها بتاريخ 24 أوت، والمتعلّق بالمنظومة الدوائية تمّ تأويله بشكل خاطئ وتوظيفه في غير غايته الأصلية، مشدّدة على أنّ الهدف منه يندرج ضمن الاستراتيجية الوطنية للدواء.
وأفادت الوزارة بأنّ ترشيد استعمال الأدوية هو علم قائم الذات في كل بلدان العالم، وهو لا يعني حرمان المرضى من العلاج، بل حسن استعمال الدواء بالكمية والمدة اللازمتين حتى يكون ناجعًا.
وتقوم هذه الاستراتيجية، وفق الوزارة، على ضمان ديمومة المخزون الاستراتيجي، وتشجيع وصف الأدوية المسجّلة والجنيسة، إضافة إلى تأمين وصول المرضى إلى كلّ العلاجات الضروريّة.
كما نفت الوزارة أن يكون الهدف من هذه المقاربة الحدّ من حقّ المرضى في التداوي، مؤكّدة أنّ الغاية الأساسية تتمثّل في ضمان استمراريّة التزويد وتأمين العلاج في أفضل الظروف.

ترشيد استعمال الأدوية يعني ترشيد النفقات الصحية
يرى رئيس الجمعية التونسية للأدوية الجنيسة والخبير لدى منظمة الصحة العالمية كمال إيدير، أن ترشيد استعمال الأدوية يُعدّ من العناصر الأساسية في مجال الدواء، معتبرا أن سياسة الأدوية الجنيسة والبدائل الحيوية هي إحدى القضايا الرئيسية في تطوير النظام الصحي العالمي بهدف ترشيد النفقات الصحية والحصول العادل على الأدوية للمواطنين.
وأكّد إيدير في تصريح لموزاييك أن 60% من حاجيات تونس من الادوية يتم تغطيتها من الصناعة الوطنية للأدوية الجنيسة، التي انطلقت منذ التسعينات، مشدّدا على أن هذا النوع من الأدوية يواجه بعض الإشكاليات رغم امتلاكه لكل المقومات والفوائد العلاجية والصحية للأدوية الأصلية، وفق قوله.
الاستئناس بتجارب ناجحة في ترشيد استهلاك الأدوية.. لما لا؟
تختلف ممارسات بيع الأدوية حول العالم بشكل كبير، ففي الولايات المتحدة الأمريكية والعديد من الدول المتقدمة في أوروبا واليابان، يتركز بيع الأدوية على العبوات الأصلية من الشركة المصنعة، مع ملصق صيدلاني مفصل يوضح الجرعة وطريقة الاستخدام، هذا النهج يهدف إلى ضمان سلامة الدواء وتتبعه بشكل فعال ومنح المريض الجرعة التي يستحقها دون زيادة لتفادي اهدار الأدوية.
على النقيض من ذلك، في العديد من دول آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، خصوصاً في الصين والهند وبعض دول جنوب شرق آسيا، قد تكون ممارسة بيع أقراص فردية أو عدد محدد من الحبوب في أكياس بلاستيكية صغيرة أو علب أمراً شائعاً، هذه الطريقة شاعت بسبب:
التكلفة: في بعض الأحيان، لا يستطيع المرضى تحمل تكلفة شراء العبوة الكاملة، فيكون بيع عدد محدد من الحبوب حلاً اقتصادياً.
المرونة: يسمح هذا النهج للأطباء والصيادلة بصرف الكمية الدقيقة التي يحتاجها المريض للعلاج، مما يقلل من هدر الدواء ويمنع تخزين كميات كبيرة قد لا تُستخدم.

من بين البلدان والمناطق التي تُعرف بوجود هذه الممارسة:
الصين: على الرغم من وجود الصيدليات الحديثة التي تبيع الأدوية في عبواتها الأصلية، لا يزال من الممكن في بعض العيادات والمستشفيات أن يتم صرف الأدوية في أكياس بلاستيكية صغيرة أو علب ورقية تحتوي على عدد الحبوب المطلوب.
الهند: تعد الهند سوقاً دوائياً ضخماً، وممارسة "التوزيع الجزئي" شائعة، حيث يتم بيع الأدوية بالعدد من العبوة الأصلية.
جنوب شرق آسيا (مثل فيتنام وإندونيسيا والفلبين): في هذه البلدان، قد يكون صرف الأدوية في أكياس صغيرة أو علب بلاستيكية ممارسة شائعة، خاصة في الصيدليات الصغيرة أو في المناطق الريفية.
دعوات لتوحيد ممارسات الصيدلة
تسعى عديد المنظمات مثل منظمة الصحة العالمية، لتوحيد ممارسات الصيدلة وتشجيع "ممارسات الصيدلة الجيدة" التي تقوم على 'أهمية التغليف الأصلي الملصق بشكل صحيح لضمان السلامة والفعالية'.
لكن في البلدان التي لديها أنظمة رعاية صحية متطورة وقوانين صارمة، مثل الولايات المتحدة وأغلب دول أوروبا واليابان وكوريا الجنوبية، لا تسمح بهذه الممارسة بشكل عام، وتتطلب بيع الأدوية في عبواتها الأصلية من أجل سلامة المريض.
*أميرة عكرمي